لماذا اختار الله الغراب لتعليم ابن آدم ؟
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير :
" وكأنّ اختيار الغراب لهذا العمل إمّا لأنّ الدفن حيلة في الغِربان من قبلُ، وإمّا لأنّ الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس. ولعلّ هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب، فقالوا: غُراب البين".
إن الغربان لا تدفن موتاها كما يقول علماء الطيور، والمدقق للنص القرآني ينتبه إلى أن القرآن الكريم ذكر غراباً واحداً، ولأن كلمة: " يبحث " المذكورة في الآية تدل على التفتيش، كما أن كلمة " يواري " لا يفهم منها الدفن، ولكن يفهم منها المواراة والإخفاء فقط.
وهاتان الصفتان - البحث والمواراة ( الإخفاء ) - من ألصق الصفات بالغربان لذكائها الشديد، ومعظم ريش الغربان يتميز باللون الأسود ذات اللمعان الواضح، يقول ابن منظور في " لسان العرب " في باب : "غرب" ، أسود غربيب وغرابي : شديد السواد ".
هذا اللون الأسود الذي كسيه الغراب لحكمة إلهية ولا يخلق الله شيئاً عبثاً، والحكمة من ذلك هو الاختفاء " المواراة " لأن الغربان تتوارى في ظلمة الليل عن أعدائها من البوم والصقور التي تنشط ليلاً وتفترسها .
وفي مقال بمجلة العلوم الأمريكية العدد 9-10/2007م بعنوان: " ما مدى ذكاء الغربان؟ " فبعد أن ذكر صاحبا المقال والبحث الذي بني عليه المقال؛ توماس بَجْنيار و ب. هاينرش أن الغربان تستخدم المنطق وأن ذكاءها قد يفوق القردة العليا ثم ذكرا أنها من الحيوانات " الخابئة " أي التي تخبئ طعامها في مخابئ، وأن لها ذاكرات خارقة تستوعب آلاف المخابئ وأنه [ عند توافر جثة موضع صراع تقوم الغربان بنقلها بحماس –كتلة من اللحم وراء الأخرى – وتخفيها بدفنها وتمويهها بفتات الحصى. ] ( صفحة رقم30 ).
ثم أورد رسمًا توضيحيًّا لغراب قد دفن فرائسه في مخابئ أشبه ما تكون بالمقابر البسيطة.
[ يلاحظ قطع الأشجار والحصى التي جُلبت بعد "بحث" وتعطي شكل القبر ]
إذن: الغربان لا تدفن موتاها، بل تواري طعامها إذا كان صغيرًا كبيضةٍ مثلاً، وتواري طعامها بقطع الصخور الصغيرة وفروع الأشجار وهو الغالب.
لذلك كان القرآن دقيقًا حين ذكر المصطلح " يبحث " لا ينقب؛ لأن الغراب يبحث عما يواري به فريسته، كما كان القرآن معجزًا حين قال " يواري " ولم يقل يدفن؛ لأن الدفن أعمق من المواراة، وهو ما لا يفعله الغراب حتى مع طعامه إلا إذا كان صغيرًا كما أن هذه الحالة نادرة والغالب التغطية.
والظاهر أن غراب ابني آدم كان يواري جسمًا ليس بالصغير لتقترب الصورة أكثر للقاتل فيقلدها، فالغراب لا يدفن موتاه ولا طعامه، وإنما " يواري " فرائسه وطعامه بعد أن " يبحث " عن أشياء يستخدمها لهذه المواراة.
وقد تنبه لهذا بعض المفسرين منهم الفخر الرازي الذي قال:
" قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئًا فتعلم ذلك منه ". [ مفاتيح الغيب : 11 / 166].
كما قال القرطبي:
" وقيل: إن الغراب بحث الأرض على طُعْمِه ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه؛ لأنه من عادة الغراب فعل ذلك؛ فتنبه قابيل بذلك على مواراة أخيه".
وقال طنطاوي جوهري في تفسيره :
" والغراب: طائر معروف. قالوا: والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الطيور أو الحيوان، لأنه يتشاءم به في الفراق والاغتراب. أو لأن من عادة الغراب دفن الأشياء ".
ــــــــــــــ
المراجع :
1 ـ التحرير والتنوير لابن عاشور
2 ـ مفاتيح الغيب للفخر الرازي
3 ـ الجامعلأحكام القرآن للقرطبي
4 ـ تفسير الجواهر لطنطاوي جوهري
5 ـ بحث بعنوان : " نبأ ابني آدم و-غرابهما- في نصوص اليهود النادرة " إعداد : هشام محمد طلبة ، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.