محمد (ص) .. والعدل الاجتماعي

ثم يطور الرسول فكرة ((المؤاخاة)) فيجعلها بعد خمسة أشهر فقط من الهجرة
((مؤاخاة)) بين المهاجرين والأنصار. وبعد أن كانت مؤاخاة على الحق
والمؤاساة أضيف إليهما أمر ثالث وهو الميراث أي أن الشركة والمساواة في
الرز والمال تعدت حياة الذين تآخوا وامتدت إلى ما بعد الممات بحيث صار يرث
أحدهما الآخر .. واستمر هذا النظام أربعة عشر شهراً أي حتى غزوة بدر التي
حدثت في الشهر التاسع عشر من الهجرة عندما نزل قوله تعالى: (وأولي الأرحام
بعضهم أولى ببعض) عند ذلك صار التوارث بين ذوي الأرحام والقرابة الذين
تآخوا من المهاجرين والأنصار.
وهناك نقطة هامة جداً وهي إن هذه الآية لم تلغ المؤاخاة على الحق والمواساة إنما ألغت فقط التوارث بين المتآخين.
وهذه أيضاً تشير إلى تجربة النبي (ص) ونظرته للأمور النابعة من إحساسه
بمشاعر الفقراء والمعدمين ومدى اتساع هذه المشاعر حتى أقام ذلك النظام في
التآخي بين المهاجرين والأنصار مدة أربعة عشر شهراً حتى نزل قوله تعالى:
(أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض) وذلك بهدف وضع الحدود للنظام في المجتمع ـ
واستمر نظام المؤاخاة حتى كان نصره على بني النضير وما حصل عليه من غنائم
كثيرة وكانت أول ثروة ضخمة يفيء الله بها على المسلمين ..
وبعد غزوة بدر اختلف المسلمون في أمر توزيع الغنائم، قال الذين حاربوا
وغنموا أنهم أصحاب الغنائم وهم أحق بها فلتوزع بينهم وحدهم، وقال الذين
كلفوا بحراسة خيمة محمد أنهم كانوا يستطيعون هم أيضاً القتال والغنم،
فلماذا يحرمون، وأوشك القوم أن يقتتلوا فيما بينهم .. ويخرج محمد إليهم
(إنكم لأولي الناس بعضكم ببعض) ثم أمر أن توزع الغنائم بين الجميع على
السواء.
وبعد انتصار محمد على بني المصطلق وزع محمد الغنائم على فقراء المهاجرين
حتى يستغنوا وحتى ينتشلهم من وهدة الفقر أو ليس هو القائل: ((كاد الفقر أن
يكون كفراً ... )).
وكان هدفه من ذلك أن يقلل الفوارق بين الأغنياء والفقراء، فتوزيع الغنائم
على الجميع رغم أنه يحمل معنى المساواة إلا أنه يحفظ للأغنياء غناهم ويبقي
الفقراء على فقرهم ولهذا خص الفقراء بالغنائم هذه المرة معلماً أصحابه
مبدأ جديداً في العلاقات الاجتماعية.
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم).
لكن الأمر لم يقتصر على توزيع الثروات وإنما امتد أيضاً ـ عند الحاجة ـ
إلى توزيع الزاد والمؤن .. ففي إحدى الغزوات نقص الزاد مع المقاتلين فأمر
الرسول كل ما مع المقاتلين من طعام، ووضع أمام الجميع ليأكل كل على قدر
حاجته ثم قسم الباقي بينهم بالتساوي.
لنتأمل موقفاً للرسول (ص) .. وهو موقفه من إجارة الأرض، وكان الناس على
عهده يؤجرون الأرض بالثلث أو الربع أو غير ذلك من غلتها .. فرأى الرسول
إجحاف ذلك بالزراع فنهى عنه طالباً من كل إنسان أن يزرع أرضه بنفسه فإن لم
يستطع فليتركها لمن يزرعها.
روى رافع بن خديج ((كنا نحاقل الأرض على عهود رسول الله (ص) فنكريها
بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا
رسول الله عن أمر كان لنا نافعاً ... نهانا أن نحاقل بالأرض فنكريها على
الثلث والربع والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها، وكره
كراءها وما سوى ذلك)).
وعن جابر بن عبدالله إن النبي (ص) قال: ((مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولا يكرها ... )).
وهكذا فالاستغلال محرم، ومالك الأرض أما أن يزرعها بنفسه أو يدع غيره
يزرعها لنفسه وفي الحديث الأول دليل على أن الرسول قد نهى عن كراء الأرض
رغم أنه كان نافعاً لقلة من الناس وهم المالكون لها، لأنه كان ضاراً
بالأغلبية وهم المستأجرون وهذا تأكيد لنظرة الرسول (ص) إلى مصلحة الأغلبية
وجعلها في صدارة قراراته.
كذلك فإنه من المأثور عن رسول الله أنه قد حمى أخصب الأرض قرب المدينة (أي حرم تملكها ملكاً خاصاً وجعلها لعامة المسلمين).
وقد روى أحمد وأبو داود عن الرسول أنه قال: ((الناس شركاء في ثلاث: الماء
والكلاء والنار)). وهو بغير شك موقف حاسم يؤيد الملكية العامة لأهم مصادر
الثروة في المجتمع في ذلك الحين.
ويروى عن الرسول حديث يؤكد فيه دعوته للاهتمام بمصالح المجموع وعامة الناس
.. فعن ابن موسى (رض) أنه سمع النبي (ص) يقول: ((لن تؤمنوا حتى تراحموا))
... قالوا: ((يا رسول الله، كلنا رحيم ((قال)) إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه،
ولكنها رحمة العامة)) رواه الطبراني.
وكم أدان الرسول الغني الفاحش باعتباره سبب الفقر الفاحش ولقد كان الرسول يعلق فقر الفقراء مسئولية في رقبة الأغنياء.
ويروي الإمام علي عن رسول الله قوله: ((إن لله على أغنياء المسلمين في
أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، وما يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما
يصنع أغنياؤهم إلا وأن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً
أليماً)).
ولكم نعى الرسول الكريم على الأغنياء كثرة غناهم وتجاهلهم لفقر إخوانهم ..
وفي آخر أيام حياته مال الرسول إلى الكعبة فجلس في ظلها ولاحظ مظاهر الغنى
تبدو على البعض ومظاهر الفقر تكسو الكثيرين ...
فظل يردد في أسى (والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله
فبشرهم بعذاب أليم) واقترب منه أبو ذر الغفاري وهو يردد هذه الآية فمال
عليه الرسول قائلاً: ((هم الأخسرون ورب الكعبة)) فسأله أبو ذر: مَن هم يا
رسول الله؟ فقال: ((الأكثرون أموالاً ... )).
لكن العديد من أغنياء المسلمين استكثروا أن يضعوا دعوة الرسول بتقسيم
المال الزائد موضع التطبيق، وحاولوا جاهدين أن يتناسوا هذه التعاليم
الإنسانية الرشيدة وإلا يجعلوها ترى النور ...
وثمة رواية توضح هذا الموقف من بعض أغنياء المسلمين وهي رواية تحفزنا إلى
أن نتقصى تعاليم رسولنا الكريم مدركين أن بعض أغنياء المسلمين قد حاولوا
نسيان تعاليمه المنادية بالمساواة بين البشر وتعاليمه التي تحض على العدل
الاجتماعي والتي ترفض الاحتكار الاستغلال.
أما إذا كان العمل هو المصدر الرئيسي للقيمة وإذا كان العمل هو الأساس
للتقدم وهو أساس كل الأنظمة التي تسعى للعدل والمساواة ـ فلدينا العديد من
الأحاديث الشريفة التي تمجد العمل وتراه العامل الذي يعطي الشيء قيمته ..
فالرسول (ص) يقول: ((لأن يحتطب أحدكم ـ وفي رواية أخرى ـ لأن يأخذ أحدكم
حبلاً فيحتطب ـ خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
ويقول عن يد العامل: ((هذه يد يحبها الله ورسوله)).
ويقول: ((لا يؤجر أحد إلا بكد يمينه)) .. وهو هنا يحدد أن العمل هو المصدر الوحيد الذي يستحق به الإنسان الأجر.
ويقول: ((أطيب الكسب عمل الرجل بيده)) رواه أحمد والحاكم.
* * *
وبعد ... فإن الحديث عن محمد (ص) والعدل الاجتماعي يطول مداه وما عن عجالة
كهذه كافية لإبراز التفاصيل وهي كثيرة أو لحصر الأدلة وهي أكثر من أن تحصى
وإنما نحن نكتفي بإيراد بعض الأمثلة وهي بالغة الدلالة، كافية بذاتها
لتقدم لنا الصورة الحقيقية لمحمد كمناضل يدعو لتحرير الإنسان. وليسمو
بالإنسان فوق المطامع والأحقاد. وليرفض للإنسان أن يستباح جهده أو عرقه
نهباً لمستغل ...
لقد وضع محمد (ص) الأساس المتين لفكرة العدل الاجتماعي مؤكداً أن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان أمر لا تقبله الشريعة ولا تقره ...
مؤكداً أن الإسلام دين يأبى إلا أن يعطي لكل ذي حق حقه. وحق الإنسان أن
يعيش حراً من كل قيد، حقه أن يحفظ عرقه لنفسه وإلا يقدمه لقمة سائغة في فم
مستغل ...
حقه في أن يرفض الظلم وأن يقاومه وأن يقيم العدل ويذود عنه ...
لقد ترك محمداً (ص) للمسلمين من القدوة والمثل اللذين قدمهما في حياته
والتعاليم التي أوحى له بها ما إذا تمسك به المسلمون حقيقة صاروا ثوار
طليعة المناضلين ضد الظلم والاستغلال في كل أنحاء العالم. وانحازوا بشكل
كامل إلى صف المضطهدين والمستغلين مدافعين عن قضيتهم ...
فتعاليم محمد (ص) تقف إلى جانب المساواة بين البشر، إلى جانب الحق والعدل،
مع الثوار والمشاركة ورفض الاستبداد بالرأي أو بالحكم ضد تركيز الثروة
والاحتكار وضد استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. إن المجتمع الذي بشر محمد
(ص) هو مجتمع متكافل، متضامن، يسوده الاخاء، يمجد العمل ويعتبره مصدراً
لكل قيمة، ويفرض على الحاكم أن يتدخل دفاعاً عن مصلحة العامة وحقوقهم.
ولعلنا بمثل هذا الفهم لرسالة محمد (ص) ننصف أنفسنا ونقيها كثيراً من الحيرة وكثيراً من الشطط