حياته
وكان لأبي الأسود بالبصرة دار، وله جار يتأذى منه في كل وقت، فباع الدار فقيل له: بعت دارك، فقال: بل بعت جاري، فأسلها مثلاً.
وكان ينزل البصرة في بني قشير، وكانوا يرجمونه بالليل لمحبته علياً كرم الله وجهه، فإذا ذكر رجمهم قالوا: إن الله يرجمك، فيقول لهم: تكذبون، لو رجمني الله لأصابني ولكنكم ترجمون ولا تصيبون.
ويحكى أنه أصابه الفالج فكان يخرج إلى السوق يجر رجله، وكان موسراً ذا عبيد وإماء، فقيل له: قد أغناك الله عز وجل عن السعي في حاجتك، فلو جلست في بيتك، فقال: لا، ولكني أخرج وأدخل فيقول الخادم:قد جاء، ويقول الصبي:قد جاء، ولو جلست في البيت فبالت علي الشاة ما منعها أحد عني.
وحكى خليفة بن خياط أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان عاملاً لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه على البصرة، فلما شخص إلى الحجاز استخلف أبا الأسود عليها، فلم يزل حتى قتل علي رضي الله عنه. ابوالاسود بين التبذير والتقتير
المعروف من سيرة العلماء والبلغاء والفصحاء، بل كل العقلاء، مسيرتهم ظاهرة بدقائقها ونياتها ومرسومة في بطون كتب التاريخ ولاسيما النجوم القريبة من الشمس تكون اوضح من البعيدة، فالذين عاشوا قرب اهل البيت لاتخفى على اللبيب سيرتهم خصوصا الذين والوا اهل البيت وذابوا (32) في بودقتهم، فهم يحذون حذو اهلالبيت ويسيرون طبق منهجهم ويطبقون رواياتهم في مضمار الاخلاق والكرم والايثار وغير ذلك من خصال حميدة; فهم أول من سار على خطى القران الكريم وطبق الحديث النبوي الشريف.
ففي كل زمان ومكان نجد الحساد والحقاد وجيش الشيطان يجلس في جانب اخر في ذلك المجتمع فيتربص للمخلص هفواته وزللهته وغير ذلك حتى يقذفه ويشهر به بين افراد المجتمع وغير هذا من اعمال الجبن والنفاق حتى يقللوا من اهميته الاجتماعية وعسى ان يقوى هذا الامر فيكون جرحا في ذلك الشخص، او عاهة اخلاقية تساير ذلك الفرد مدى التاريخ.
فقد رموا الدؤلي بالبخل واشاعوا هذه الخصلة بين الناس وتناسوا انه من قراء القران ومشكله، ويقول سبحانه وتعالى في محكم كتاب: «ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين» واشار في اية اخرى «لاتجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولاتبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا» فمن هاتين الايتين يظهر خط الوسط في التعامل مع المجتمع، وهو الاقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن الذين اتهموه لميلتفتوا ان خطالحياة الواضح عند الدؤلي المستنبط من حكم الله، فنلاحظ التهم ضعيفة ومنها ماتميل للفكاهة لاالىالحقيقة، ومن ذلك مارواه الدميري (33) : «ان اباالاسود سمع رجلا يقول: من يعشي الجائع؟ فقال ابوالاسود على به، فاتاه بعشاء كثير، وقال له: كلحتى تشبع، فلما اكل ذهب ليخرج، قال: إلى اين تريد؟ قال: اريد اهلي، قال:لاادعك تؤذي المسلمين الليلة بسؤالك، اطرحوه في الادهم، فبات عنده مكبلا حتىاصبح» (34) .
لو وضعنا هذه الرواية في ميدان التحقيق، لوجدناها مجموعة متنافيات، اذا كان الدؤلي بخيلا من باب اولى، لايدعوه، فيغلق النهر من اصله، ومثل الدؤلي عالم وقاضي يقول للفقير لاادعك تؤذي المسلمين، اليس هو منهم، وباى حق يؤذي مسلما وفقيرا، وهل ورد في دواوين العرب من يطعم فقيرا او ضعيفا وبعد الاطعام يجازيه بمثل هذا الجزاء، ومن جانب اخر باى قرار وقانون شرعي كبل هذا المسلم ووضعه في الادهم الىالصباح، هل ان السوقي يقوم بهذا العمل حتى يقوم به قاض من قضاة الدولة الاسلامية.
ويقول ابن قتيبة: وكان الدؤلي يقول لاولاده: «لاتجاودوا الله فانه اجود وانجد ولوشاء الله ان يوسع على الناس كلهم، حتى لايكون محتاج لفعل» (35) هذه حكمة بالغة يريد تبيان قوة الله سبحانه وتعالى والحقيقة هذه، وليس من العقل انه كلما تحرك الرجل في الارشاد والتبليغ نرميه بالبخل.
وذكر صاحب الاغاني: «سال رجل اباالاسود شيئا فمنعه، فقال له: يااباالاسود! مااصبحتحاتميا! قال: بلى اصبحتحاتميا من حيث لاتدري; اليس حاتم الذي يقول:
اماوي اما مانع فمبين واما عطاء لاينهنهه زجر» (36)
ففيها شيء من الفكاهة الظريفة وليس لها علاقة بصفة البخل، والنكتة ليس لها علاقة بحقيقة خصال الرجل.
نحن لانريد ان نكون من جانب الشاعر ولامن جانب من رماه بتهمة البخل، فكل القصص التي جاءت تحت هذا العنوان (البخل) لوادخلتها ميدان التحقيق، لوجدت منها المنتحل وفيها الملفق وفيها اراد الحكمة والارشاد والنكتة والفكاهة، ولكن المتربص يريد منه البخل فيتهمه بذلك.
والحقيقة هو رجل لامسرف ولامبذر، بل هنالك طريقالقوام الذي ينتخبه ذلك الشاعر