وكل في فلك يسبحون
تبين لنا مما سبق أن قول العلم بمركزية الشمس في النظام الشمسي ودوران الأرض حولها هو مجرد تعبير رياضي، لا يمكن الحديث عنه على أنه يصور الواقع، حيث إن الأجرام السماوية تتحرك بالنسبة لبعضها البعض في نظام يصح لنا أن نُثبِّتَ أي نقطة فيه لتكون المركز ثم نعيد حساباتنا على هذا الأساس، ويعني هذا الأمر أنه علينا إعادة كتابة علم الفلك الحديث؛ لو أردنا أن نعود مرة أخرى إلى فكرة مركزية الأرض بدلاً من الشمس، وهو الأمر الذي يجعل التفكير في ذلك مستبعداً في الأوساط العلمية. ولكن يجدر بنا قبل مغادرة هذه الفقرة أن نشير إلى أن القرآن الكريم على كثرة إشاراته للشمس والقمر، وحركتيهما، وفائدة هاتين الحركتين للإنسان، لم يذكر صراحة كون هذين الجرمين يدوران حول الأرض أو كون الأرض تدور حول الشمس، وإنما جاء في ذلك قول الحق تعالى "وكل في فلك يسبحون"، وهو تقرير لحركة هذه الأجرام وحسب، وهذا ما شاهده الناس على مرِّ العصور وقرره العلم الحديث، فانظر إلى هذه العبارة الموجزة التي استغرقت من البشرية آلاف السنين لتستوعبها منذ عهد بطليموس وأنموذجه الذي يجعل الشمس تدور حول الأرض إلى عهد كوبيرنكس الذي قال بالعكس، ثم وصولاً إلى أينشتين الذي قررت نسبيته أنه لا محل للنزاع فالمسألة مجرد اصطلاح رياضي.. وصدق الله إذ يقول "ولوكان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا". وفي مقابل "اختلاف" العلم الكثير هذا تأبى العبارة القرآنية أن تتعرض صراحة لمسألة "من يدور حول من؟"، وإنما تقرر فقط أن الجميع يسبح في فلك خاص به "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار"، ثم تترك بعد ذلك المسائل الاصطلاحية التي تتغير وتتبدل بحسب المنفعة لاجتهاد البشر، ليظهر لنا الفرق جلياً بين العبارة القرآنية القطعية، والحقيقة العلمية الظنية.
وعموماً فإنه لا يخفى أن من مقتضيات الإيمان أن يعلم المسلم أنه ما من آية في كتاب الله تحدثت عن أمر من أمور الدنيا أو الآخرة إلا وقد استوعبت وصف هذا الأمر بأحسن عبارة وأدقها وأروعها، مما لايطيق مثله البشر، فإذا كان الأمر الذي تعرض له القرآن مما يدخل في نطاق البحث العلمي فلا شك أن دقة العبارة القرآنية سوف تستوعب ما بلغه العلم من وصف، إذا كان ذلك الوصف العلمي حقيقة ثابتة. وكيف لا والمتكلم بهذا القرآن هو الحق سبحانه وتعالى، الخبير بكل ما خفي ودق، والعليم بالسر وما هو أخفى من السر، والذي يعلم أنه سوف يأتي على الناس زمان يتحدثون فيه عن هذه الاية أو تلك وعن وجه الإعجاز فيها.
العلم مفتاح للإعجاز
ويمكننا في ضوء ما سبق أن نقول أن دور العلم في قضية الإعجاز القرآني هو أنه ييسر شهود هذا الإعجاز، وذلك بواسطة الحقائق المشهودة والتي ظهرت للناس في هذا الأيام بعد سلوكهم المنهج العلمي في البحث والاستدلال. وهناك فرق كبير بين أن ننسب هذه الحقائق القطعية إلى العلم فنسبغ عليه – بناء على ذلك - ثوب المرجعية ، وبين أن نقبل بهذه الحقائق كما نقبل بغيرها من المحسوسات والموجودات، مع تقديرنا لدور العلم في الدلالة عليها. وبعبارة أخرى يمكننا القول أن المعرفة العلمية (سواء سميت نظرية أو حقيقة أو غير ذلك) تبقى منسوبة إلى العلم إلى أن يثبت صدقها فتصبح حقيقة مشهودة مستقلة عنه وتخرج عن التصنيف العلمي إلى التصنيف الواقعي الشهودي. ومن هنا كان التراجع عن مثل هذه الحقائق غير ممكن لا لكونها علمية المصدر بل لكونها خرجت من السمة الظنية للعلم إلى السمة القطعية للحس. ويمكننا التمثيل لدور العلم في الوصول إلى هذا الشهود بصحيفة تورد الأخبار اليومية، يكون فيها الصحيح، والصحيح نسبياً والكاذب. فلو أن هذه الصحيفة أوردت خبراً بوقوع صدام بين قطارين في مكان ما، ثم تحققنا بأنفسنا من صدق هذا الخبر، كأن وقفنا على مكان الحادث، ورأينا القطارين الذين ورد ذكرهما في الصحيفة، فإن الخبر يصبح حقيقة مشهودة لا تقبل التراجع عنها، ولا يمكننا تصور أو قبول أن الصحيفة سوف تنشر تكذيباً للخبر في اليوم التالي، ومصدر هذه الثقة لدينا ليس صدق العاملين في الصحيفة أو دقة تحريهم للأخبار، ولكنه شهودنا للقطارين المصطدمين في مكان الحادث. ثم إن شهودنا لهذه الحادثة وتيقننا من وقوعها لن يجعلنا نغير رأينا في أخبار الصحيفة بشكل عام من حيث كونها قابلة للتكذيب والنفي في أي وقت لاحق. وكذلك شأن العلم فإن دوره في كشف بعض الحقائق المشهودة لا ينبغي أن يجعلنا ننسب هذا الشهود له أو أن نعتقد بمطلقية معارفه، كما أن إسهامه في الكشف عن هذه اليقينيات لا ينبغي أن ينسينا أن هذا الكشف إنما جاء عرضاً ضمن معارف العلم الكثيرة والتي تمثل جسراً بين الإنسان والواقع يُقصد به من الاستفادة المادية من هذا الوقع – في المقام الأول- لا معرفة كنهه وحقيقته. وخير شاهد على ذلك هو تحول البحث العلمي في عصرنا الراهن إلى مؤسسات مدعومة لإنجاز أغراض تطبيقية معينة، حتى يكاد يندر أن نجد مؤسسة علمية بحثية على مستوى راقٍ لا تحصل على دعمها من شركات ربحية، أو إلى حكومات تهدف إلى إنجاز مشاريع ذات صبغة تطبيقية. وهذا الأمر يعكس ما أوضحناه في أول المقال من أن دافعية العلم إنما يحدوها الاهتمام النفعي البرغماتي، وليس الاهتمام الأنطولوجي الفلسفي، ولذلك فقد نجح العلم - والذي تمثل التكنولوجيا مثالاً واضحاً له في هذا المجال - في خدمة الرغبات البشرية، بينما أخفق – في المقابل - في الإجابة عن أكثر الأسئلة أساسية في ضمير الإنسان والتي تدور حول مهمته ودوره في هذا الوجود. ومن هنا كان دور العلم في قضية الإعجاز القرآني يتمثل في كونه مفتاحاً للوصول إلى بعض الحقائق التي يمكن التحقق منها بالحس والمشاهدة، وبالتالي يمكن رؤية الإعجاز القرآني من خلالها.
الإعجاز العلمي: تثبيت لا إثبات
إن قضية البحث في المواءمة بين العلم والدين - على أهميتها في هذا العصر وحاجة المسلمين إليها - تحتاج إلى كثير من الحيطة والحذر. فلا ينبغي أبداً أن نجعل من العلم حَكَماً على الدين، نستدل به على صحة نصوصه، ونثبت به صدق رسالته. وربما كان كثير من المتحمسين لقضية الإعجاز العلمي لا يدركون بأنهم بمجرد حرصهم على إثبات صدق القرآن الكريم أو السنة النبوية بواسطة الحقائق العلمية فإنهم - من حيث لا يشعرون - يضعون العلم في مرتبة أعلى منهما. ولا يعني ذلك أن نتوقف عن ربط العلم بالدين والاستفادة مما توصل إليه من معارف في فهمنا لنصوصه المقدسة، ولكن يجب أن يكون ذلك من باب تثبيت حقائق الإيمان في قلب المؤمن لا من باب إثباتها، وشتان بين التثبيت والإثبات. كما أن التثبيت نفسه لا يكون إلا بقدر الحاجة، فالإكثار من ربط آيات الكتاب الكريم بالعلم، واتخاذ ذلك ديدناً، ربما أورث تعلقاً بمعطيات العلم، وحجب صاحبه عن التأمل فيما وراء الظواهر العلمية من أسرار القرآن ومكنوناته، بل يُخشى أن يقود ذلك إلى إبعاد صاحبه عن منهج التسليم بالنص القرآني، فيستمرئ عرض كل ما أشكل عليه فهمه منه على معطيات العلم الحديث، فيفقد بذلك شيئاً من "سكينة" الإيمان بـ"الغيب" والتصديق به، ويبقى في نهم دائم إلى تأويل ما لايدركه من ذلك بما يبصره في عالم "الشهادة"، وليس ذلك مما يزكي الإيمان في شيء.
أما فيما يخص استخدام العلم في إثبات أن هذا القرآن منزل من عند الحق سبحانه وتعالى وليس من صنع البشر، فلا يكون بنسبة آية منه إلى مقررات العلم القابلة للتغيير والتبديل، بل إلى الحقائق المشهودة التي أشرنا إليها سابقاً والتي أصبحت جسماً منفصلاً عن العلم بعد أن ثبت شهودها لعامة الناس. إن مناشدة تعلق الجماهير المسلمة وانبهارها بالعلم ومنجزاته في محاولة لإثبات الدين أمر يضر أكثر مما ينفع، إذ إن فيه تسليم لهم بموقع العلم ومكانته - المبالغ فيها - في أذهانهم ، كما أن فيه ترسيخ لهيمنة العلم على الدين وغلبته عليه. كما لا يكون إثبات أن هذا القرآن من عند الله بأخذ آية منه ثم البحث عن وجه الإعجاز فيها، إذ لن يعدم الجاحد صاحب الهوى، أو الحائر المتردد من أن يجد تأويلاً ما، أو أن يقول ربما كان ذلك من قبيل الصدفة والاتفاق، لكن معالجة هذا الأمر إنما تأتي بسلوك ما دعا إليه القرآن الكريم في قوله تعالى " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا".. ليظهر بذلك صدقه عند كل مريد للحق. وإن كتاباً تحدث قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، وفي ما يزيد عن ألف فقرة (آية) منه عن أمور تتعلق بخلق الإنسان، وتَكوُّن السحاب، وحركة الرياح، وخصائص الأرض، ووظيفة الجبال، وغير ذلك من الظواهر الطبيعية المختلفة، إن كتاباً تحدث عن هذا كله ثم لم يصطدم في أي عبارة من عباراته مع حقائق العلم الحديث - والذي تُعدُّ دراسة الظواهر الطبيعية من صلب وظيفته - لجدير بأن يقف أمامه المنصفون منبهرين عاجزين! فليس الأمر يتعلق بآية واحدة أو بضع آيات تشير إلى حقيقة علمية يمكن للمتأول المشكك أن ينسب إشاراتها تلك إلى الصدفة المحضة، ولكن الأمر يتعلق بهذا الكم الحاشد من الآيات التي يزيد عددها عن الألف كيف تنتقل من موضوع إلى آخر، ومن ظاهرة إلى أخرى تصف، وتشرح، وتشير، وترمز، دون أن يستطيع العلم الحديث بسلطانه الممتد، وهيلمانه الطاغي، أن يرد شيئاً من تلك الإشارات، أو أن يعترض على بعض من تلك العبارات.. وأنى للعلم أن يعترض! وخالق هذا الكون هو منزل هذا الكتاب، وصدق إذ يقول "لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا".. ونحن ياربنا نشهد بذلك.. فاكتبنا اللهم من الشاهدين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] Gregory M. Derry, 1999, “What Science Is And How It Works”, Princeton University Press, New Jersey.
[2] Richard Feynman,1998, “ The Meaning Of It All”, Allen Lane The Penguin Press, London.
[3] جون بولكين هورن، 2000م ، " ما وراء العلم : السياق الإنساني الأرحب" ، عرض د. يمنى طريف الخولي، المكتبة الأكاديمية ، القاهرة.
[4] ماهر عبدالقادر علي، 1985، " نظرية المعرفة العلمية"، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت.
[5] جون بولكين هورن، 2000م ، " ما وراء العلم : السياق الإنساني الأرحب" ، عرض د. يمنى طريف الخولي، المكتبة الأكاديمية ، القاهرة.
[6] بول ديفس وجون جريبين، 1998، " أسطورة المادة: صورة المادة في الفيزياء الحديثة"، ترجمة علي يوسف علي، سلسلة الألف كتاي الثاني (299)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
[7] المرجع السابق.
[8] B. Carroll and D. Ostlie, 1996, “An Introduction To Modern Astrophysics”, Addison –Wesley, Reading. USA.
[9] Bertrand Russell, 2000, “ ABC Of Relativity: Understanding Einstein”, Orion Audio Books, London.
[10] والتر ستيس، 1998، الدين والعقل الحديث، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة.
[11] Stephen Hawking, 1996, “ The Illustrated A Brief History Of Time