معرفة الله بواسطة مخلوقاته
هذا ويمكن للإنسان أن يعرف الله بواسطة مخلوقاته وأفعاله، فهذه المخلوقات هي أنوار خلقها الله وبعثها أشعة تهدي إليه.
فالحياة نور إلهيّ:
«وإنا لنحنُ نُحيي وَنُميتُ ونحنُ الوارثُون »(6).
والنهار نور إلهيّ:
«تُولجُ الليلَ في النَّهار وتولجُ النَّهارَ في اللَّيل وتُخرجُ الحي من الميّت وتخرج الميت من الحي...»(7).
والرزق نور إلهيّ:
«... وترزق من تشاء بغير حساب»(
.
هو ربّنا تجلياته باهرة في هذا الكون؛ أوجد نظامه المتقن، خلق الكائناتِ العجيبةَ وأرشدها إلى كمالها اللائق بها:
«... ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»(9).
إنّه هو الذي ألهم النحل كيف تبني لنفسها بيوتاً في الجبال بهندسة خاصّة، مستخدمة الأشجار وأغصانها:
« وأَوحَى ربُّكَ إلى النَّحلِ أن اتَّخذي من الجبالِ بيوتاً ومن الشجر ومما يعرِِشُون، ثم كُلِي من كُلِّ الثَّمرات فاسلكي سبل ربّك ذُلُلاً يَخرجُ من بُطونِها شرابٌ مختلفٌ ألوانُهُ فيه شفاءٌ للناسِ إن في ذلك لآيةً لقومٍ يتفكَّرُون »(10).
وإنّما يمكن معرفة هذه التجليات والمخلوقات والأنوار الإلهية لأنّها تشرق وتغرب، تظهر مرّة وتغيب أخرى، موجودة في وقت معدومة في آخر...
وبعبارة أخرى فإنّه يوجد لهذه الأنوار الإلهيّة ما يقابلها، لذا يتمكّن الإنسان من إدراكها.
ثمّ إنّ الإنسان من خلال إدراكه لمخلوقات الله وتجليّاته فإنّه يدرك شيئاً من النور الإلهيّ الذي لا غياب له، فالحياة، بكلّ ما لها من تجليّات؛ من نموّ وجمال، وحسن تركيب ونظام، من حبّ وعاطفة وغرائز هادية، كلّها تكشف لنا عن ذات الله.
كلّ هذه آيات تعكس لنا الواحد الأحد.
من هنا يكثر القرآن ذكر الحياة وآثارها وتجلياتها وشؤونها، إنّها قبس من النور الإلهيّ، لأنّها فعل الله(جلّ وعلا)، ترشد وتهدي إليه من تفكّر فيها.
بعض أمثلة القرآن الكريم
فالقرآن يستدلّ بهذا النظام الثابت الجاري على الحياة والممات، يستدل ببعث الحياة في الأرض من جديد في كلّ عام:
«... وَتَرَى الأرض هامِدةً فإذا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زوجٍ بَهِيج، ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحيِي المَوْتَى وأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَديرٌ »(11).
يستشهد بظهور الجنين في النطفة وتكامله
« ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين »(12).
فكل هذه إفاضات تصل من الغيب، لتحثنا على التفكر في كنه هذا الخلق، وعلى التعمق فيه حتى نرى الله في مظاهره الخلاقة.
فلو تعمقنا في هذا النظام لأوصلنا إلى أفق معرفة هي واسطة في معرفة الله.
فالقرآن يأخذ بيدنا ويسير بنا في طريق الحياة والطبيعة لنشرفَ على النور الذي يشعّ على جسد المادة، على الكمال الذي يفيض عليها، لنقترب شيئاً فشيئاً مع القرآن من أفق الملكوت؛ إذ الحياة بكل حالاتها هي فيض من نور الله وعطائه.
لكن تبقى حقيقة أنّ هذه المخلوقات الإلهيّة مجرّد إشعاعات من نور مطلق ذاتيّ، وهذه الإشعاعات ليست مطلقة ولا دائمة، فإذا كانت هي وسيلتنا إلى معرفة النور الإلهيّ، فإنّ معرفتنا له ستكون محدودة بمحدودية هذه الإشعاعات اللطيفة.. وسيكون إدراكنا لله محدود، هذه المحدودية عائدة إلى محدودية إمكانياتنا وقدراتنا، إلى قصور عقلنا البشريّ وجهاز الإدراك لدينا، حيث أنّ عقلنا عاجز عن إدراك ذات الله، ولا يدركه إلا بواسطة أفعاله ومخلوقاته.
النتيجة
في الوقت الذي يؤكّد القرآن أنّ الله أظهر من كلّ شيء.
«هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم »(13).
فإنّ طراز (طريقة) صنع الفكر والعقل البشريّ عاجز عن إدراكه بذاته، هو لا يدركه إلا بواسطة ما يقابله، ولذا فإنّه يدرك الله عن طريق تجلياته في هذا العالم ومظاهره التي أوجدها، التي تشرق تارة وتغيب أخرى. يعرفه عبر الأنوار المحفوفة بالظلمة، فيما الله نور دائم لا غياب فيه..
والنتيجة المحتومة أن تكون هذه المعرفة ناقصة ومحدودة بمحدودية هذه الأنوار والتجليّات، وهذا النقص والمحدوديّة يعود إلى قصور هذا الإنسان في قبال عظمة هذا الخالق.
الخلاصة
إنّ العقل البشري وإدراك الإنسان محدود، فهو لا يدرك الأشياء إلا بواسطة أضدادها، وإذا لم يكن لثمة شيء ما يقابله ويضادّه، فإنّ العقل البشري سيقف عاجزاً عن إدراكه.
والإنسان يدرك النور والظلام بالمقابلة بينهما، وكذا القدرة والعجز لولا العجز لما عرف للقدرة معنى، وقس على ذلك العلم والجهل، الخير والشرّ، إلى ما هنالك من أشياء يدركها هذا العقل...
هذا النقص والقصور في العقل البشريّ ينسحب بشكل طبيعيّ على معرفته لله؛ فمع أنّ الله نور مطلق محيط بالإنسان بشكل دائم، إلا أنّ هذا العقل القاصر لن يدرك هذا النور بذاته، بل هو بحاجة إلى ما يقابله كي يستطيع إدراكه.
من هنا إنما بوسع العقل أن يدرك الذات الإلهية بالنظر إلى نفسه التي تحوي الصفات المقابلة لصفات تلك الذات، فالنفس منتهى العجز والفقر والحاجة والضعف، والله منتهى القدرة والغنى والاستغناء، هو الكمال المطلق.
كما يمكن للإنسان أن يعرف الله بواسطة أفعال الله ومخلوقاته؛ إذ هذه الأفعال والمخلوقات توجد وتنعدم، فتحمل الصفات المتضادة والمقابلة لبعضها، وعليه يتمكن الإنسان من إدراكها، ومع إدراكها، وما هي إلا قبس من النور الإلهيّ، فإنّه سينعم بشيء من معرفة الله.
وإذا كان الإنسان مضطراً في معرفته لربّه، وبسبب القصور في جهاز إدراكه، إلى الاعتماد على مخلوقات الله وتجليّاته، والتي تشرق حيناً وتغرب أخرى، ولا يمكنه معرفة الذات الإلهية مباشرة، فإنّ معرفته ستكون محدودة بمحدودية هذه التجليات والأنوار الإلهيّة، وبمحدودية إدراكه لها، فالإنسان المحدود يعرف الله ضمن حدود إمكاناته.